الحمد لله رب العالمين
نهاية البحث
ويقول الإمام ابن حجر في شرحه لحديث أنس في الإذن في الرقية من الحمة والأذن: "وأما رقيه الأذن، فقال ابن بطال: المراد وجع الأذن، أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع، وهذا يرد الحصر الماضي في الحديث المذكور في "باب من اكتوى"، حيث قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة". فيجوز أن يكون رخص فيه، بعد أن منع منه أو يحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمه، ولم يرد نفي الرقى من غيرهما(397).
وقال أيضاً في شرحه لحديث ابن عباس فـي المرأة التي كانت تصرع وتنكتشف: "وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية....(398).
ونقل صاحب الفتح الرباني عن الإمام النووي في حديث أبي سعيد عند قوله: وما أدراك أنها رقيه: "فيه التصريح بأنها رقية، فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض، وسائر أصحاب الأسقام أو العاهات(399).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية: "فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود"؛ "لا رقيه إلا من عين أو حمة"- والحمه فوق السموم كلها. فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي جواز الرقية في غيرها، بل المراد به: لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة، ويدل عليه سياق الحديث. فإن سهل بن حنيف قال لما أصابته العين: أو في الرقي خير؟ فقال: لا رقية إلا في نفس أو حمة. ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة(400).
397- انظر فتح الباري لابن حجر (10/173) ش ح(5719-5720-5721).398- انظر فتح الباري لابن حجر (10/115) ش ح(5652).399- انظر الفتح الرباني للساعاتي (17/184) ش ح(142).400- انظر زاد المعاد لابن القيم (4/175).
ويقول شيخنا محمد بن صالح العثيمين- حفظه الله- في تعليقه على باب ما جاء في الرقى والتمائم من كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وظاهر كلام المؤلف: أن الدليل لم يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين (العين، والحمة)، ولكن ورد بغيرهما، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفخ على يديه في منامه بالمعوذات ويمسح بهما ما استطاع من جسده، وهذا من الرقيـة، ليس عيناً أو حمة. ولهذا يرى بعض أهل العلم الترخيص فــي الرقية من القرآن للعين والحمة، وغيرهما عامة، ويقول: إن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حمة"؛ أي لا يُطلب الاسترقاء إلا من العين، والحمة. فالمصيب بالعين "العائن"، يطلب منه أن يقرأ على المعيون"(401).
هل الرقية تنافي التوكل؟
النصوص في تقرير الرقية الشرعية كثيرة، كما تقدم ذكر طائفة لا بأس بها فيما سبق. وهذا الاستفهام منشؤه، حديث عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم. عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"…. الحديث؛ وفيه…."هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون .... (402).
401- انظر القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين (1/184).402- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب من لم يرق ح(5752) ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ح(216) والترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة: باب (81) ح(2454) وقال هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/271) وقال الهيثمي في المجمع (10/405) رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الكبـير (18/23) والبيهقي في الكبرى: كتاب الضحايا: باب ما جاء في استحباب ترك الاكتواء والاسترقاء (9/341) والبغوى في شرح السنة (15/135) ح(4322).
نظر بعض الأقوام على أن الحديث يفيد التنافي بين الرقية والاستشفاء والعلاج، وبين التوكل على الله تبارك وتعالى. والحق أن الأصل هو جمع النصوص الشرعية وعدم ضرب بعضها ببعض، ثم الرجوع إلى أقوال أهل العلم والفضل وفهمهم وتطبيقهم وجمعهم بين النصوص الشرعية، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
إن الرقية قد تثبت مشروعيتها، وأنها من الأسباب التي جعلها الله عز وجل نافعة بإذنه في التداوي والاستشفاء من الأمراض. والأسباب إما أن تكون شرعية، أي مقررة في الشرع الحنيف ومنصوصاً عليها، وإما أن تكون حسية مادية محجوبة عند أهل الحل والعقد والاختصاص.
وأما التوكل على الله عز وجل عند أهل السنة والجماعة؛ فهو بذل الأسباب المشروعة في جلب المنافع ودفع المضار عن النفس والغير، مع اعتماد القلب في حصول نتائج هذه الأسباب على الله سبحانه وتعالى وحده، إذ هو رب الأسباب وبيده الخير كله، وهو النافع وحده لا إله إلا هو.
وبهذا يتبين أنه لا منافاة بين بذل الأسباب والسعي في تحصيلها بما هو مشروع، وبين التوكل على الله تعالى، واعتقاد القلب واطمئنانه إليه جل وعلا في حصول المنافع ودفع المضار. بل إن في بذلها كمال التوكل على الله وامتثال أمره. فقد جاءت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة تأمر ببذل الأسباب والسعي الجاد في تحصيلها.
يقول الإمام ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث ابن عباس: "تمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من سائر الأدوية، وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما. وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:
أحدهما: قال الطبري والمازري وطائفته، إنه محمول على من جارى اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية، ومن الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفراً؛ بخلاف الرقي بالذكر ومعناه ونحوه. وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفاً مزية على غيرهم، وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة. ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس بمسلم. فلم يسلم هذا الجواب.
ثانيها: قال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث، الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا!! وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في باب من اكتوى، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قيل وقوع الداء.
ثالثها: قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعهودة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء، ورقى الرقاة، ولا يحسنون من ذلك شيئاً، والله أعلم.
رابعها: أن المراد بترك الرقي والكي الاعتماد على الله في دفع الداء، والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح. لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، إلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه.
قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلاً وأمراً، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل ، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كامل التوكل
يقيناً، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئاً بخلاف غيره(403).
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرحه الحديث، وبعد أن ذكر قول الخطابي: "والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي، ومن وافقه كما تقدم، وحاصله أن هؤلاء كمل تـفويضهم إلى الله عز وجل.." (404).
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لحديث ابن عباس: "فهؤلاء من أمته، وقد جمعهم بأنهم لا يسترقون، والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية نوع من الدعاء، وكان صلى الله عليه وسلم يرقى نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه...."(405).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه فيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادهما، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطليها يقدح في مباشرة التوكل نفسه، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافى التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للأمر، والحكمة، والشرع؛ فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً"(406)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله في شرحه لحديث ابن عباس:
403- انظر فتح الباري لابن حجر (10/211-212) ش ح(5752). 404- انظر شرح النووي على مسلم (3/91) ش ح(374).405- انظر مجموع الفتاوي لابن تيمية (1/328).406- انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (111).
إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم لها ليس لكونها سبباً، ولكن لكونها سبباً مكروهاً؛ لاسيماً المريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت. أما مباشرة الأسباب نفسها، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، كما في الصحيح عن أبى هريرة مرفوعاً، "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء"(407).
فالحاصل أنه يتعين على الإنسان أن يبذل الأسباب التي شرعها الله ورسوله، أو التي نصبها الله قدراً في تحصيل منافعه ودفع المضار عن نفسه وعن غيره. وذلك لا ينافى التوكل، بل يحققه ويكمله. وأما ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه فحاصل كلام العلماء فيه التفريق أولاً بين الذين يرقون أنفسهم أو غيرهم، وبين الذين يسترقون، أي يطلبون الرقية من غيرهم، ثم ثانياً: أنه بيان ووصف لطائفة من هذه الأمة بقوة اعتمادهم وتعلقهم بالله تعالى وحده في حصول المنافع ودفع المضار، وبعزة نفوسهم وعدم التذلل وسؤال غير الله، وبكمال إيمانهم وتعلق قلوبهم بالله، ومخافة التعلق بغيره من الأسباب والأشخاص، وبكمال استسلامهم لقضاء الله وقدره وتلذذهم بالبلاء في جنب الله تعالى. وهذا كله لا يعني ولا يلزم منه ترك التداوي وترك الإحسان إلى الناس بإيصال الخير لهم، ودفع الشر عنهم.
407- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(5678) وأحمد في مسنده (1/377).
الخاتمة
تقرر مما سبق ذكره ونقله إباحة وإجازة الرقى، واستحبابها على حسب الحاجة إليها ووفق الضوابط الشرعية لاجتناب الوقوع في المحاذير الشرعية من التعلق بغير الله، واعتقاد الانتفاع بغيره عز وجل مما هو طريق الشرك الذي هو أعظم ما عصي الله تعالى به.
ومعلوم أن ما كان مباحاً وجائزاً، وربما مستحباً أيضاً فإن أخذ الأجرة عليه تابع لأصل الفعل، فحكم أخذ الأجرة والتكسب فرع حكم الرقية والتداوي.
ولكن ما نشاهده اليوم من كيفيات متعددة تتم بها الرقية، وهي قائمة على التفرغ لهذا العمل واتخاذه حرفة ومهنة، واشتهار أشخاص يقومون بهذا العمل، واشتهار عيادات متخصصة في هذا النوع من التداوي حتى ازدحم الناس على أبواب هذه العيادات، وتعلق كثير منهم ببعض القراء دون النظر والاعتبار بالمقروء، الأمر الذي ترتب عليه كثير من المفاسد من أهمها:
1- اعتقاد كثير الناس خصوصية معينة على القاريء الذي يزدحم عليه الناس؛ مما يسبب الغلو بالقاريء على حساب المقروء. والأصل في الشريعة سد الذرائع التي قد تفتح باب شر وضلال على أهل الإسلام.
2- عدم ورود مثل هذه الكيفيات، واتخاذ الرقية حرفة لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من أهل العلم والفضل رغم وجود الحاجة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، والأصل متابعتهم والاقتداء بهم.
1- فتح باب شر للقاريء إذا رأى ازدحام الناس عليه فيصاب بالعجب، ويظن في نفسه ما فيه فتـنتها- وقد تزيد الشياطين في هذه الفتنة حين تنطق وتعلن خوفها وفزعها من هذا القاريء استدراجاً وفتنة له.
ورضي الله عن عمر في سده لهذا الباب حين قال لأُبَّي رضي الله عنه وحوله جماعة من أتباعه: "أما علمت أنها فتنة للمتبوع ومذلة للتابع".
ولهذا كان بعض من اشتهر بإجابة الدعوة من السلف يخفون أنفسهم ولم يزدحم الناس على أبوابهم. وفي قصة أُوَيْـسٍ القرني عظة وعبرة في مخافة الفتنة وسد أبوابها ووسائلها صيانة للنفس والدين.
4- انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا اليوم لما تدره من أموال على المتفرغ وغيره، قد تفتح بابا للمشعوذين والدجالين وأصحاب النفوس المريضة وطلاب الكسب غير المشروع في فتح عيادات واستقبال الناس والعامة.
5- يتوهم كثير من الناس أن هذه الطريقة، وهي التردد على هذه العيادات هي طريقة الرقى الشرعية، فيظل يطلبها ويسترقي غيره، وتتعطل بذلك الطريقة الشرعية وهي رقية الإنسان نفسه، والالتجاء بصدق إلى الله عز وجل، الأمر الذي يؤدى إلى تعلق المريض بغير الله ولجوئه إليه واطمئنان قلبه إليه؛ مما ينافي توكله على الله تعالى وحده، ومن ثم ينقص توحيده أو ينقضه تماماً.
وقد سئل شيخنا الشيخ صالح بن فوزان الفوزان في محاضرة له عن فتح عيادات خاصة للقراءة. فأجاب حفظة الله:
"هذا لا يجوز لأنه يفتح باباً للفتنه وباباً لاحتيال المحتالين، وما كان هذا من عمل السلف أن يفتحوا دوراً أو محلات للقراءة. وأن التوسع في هذا يحدث شراً، ويدخل فيه من لا يحسنه، لأن الناس يجرون وراء الطمع، ويحبون جلب الناس إليهم، ولو بعمل أشياء محرمة، ومن يأمن الناس؟ ولا يقال: هذا رجل صالح، لأن الإنسان يفتن والعياذ بالله، ولو كان صالحاً. ففتح هذا الباب لا يجوز ويجب إغلاقه.
هذا والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحبه يرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا وآله وصحبه أجمعين.